«عريس البحر»
الموال الشعبي ببنيته اللحنية وحواره الشجي وسرده القصصي، يأسر أذن مستمعيه بأداء منشده. يبقى عالقاً في سمعك ولا تفوته أذنك. وتتميز هذه المواويل بقدرتها الاستثنائية على البقاء في أذهان الجماهير وترك أثر لا يمحى في الشعور الجماعي نظرا لشدة إتقان مغنيها لفنون الحكاية والارتجال المتناغم في تقديم المآسي والعبر حتى يلامس الواقع الواقع. يمتزج مع الخيال. ومن وحي هذا التأثير وهذا الشعور اختار المخرج المسرحي وليد طلعت موال مسعود ووجيدة للفنان الشعبي محمد طه ليعيد صياغة القصائد إلى دراما مسرحية كاملة بتقديم عريس البحر على مسرح الروابط.
عنصر المفاجأة والاستثناء لم يتوقف عند قدرة وليد ومعه. قام محمد عادل بتحويل هذه الصور الشعرية والدراما البليغة إلى نسيج مسرحي درامي واسع مكتمل الأركان. في حين كان عنصر المفاجأة والدهشة الأول هو أن طلاب الجامعة البريطانية يمارسون هذا النوع من الفنون الشعبية بشكل أساسي؛ ومن المعروف أو المعتاد بين الطلاب الجدد على ممارسة المسرح، وخاصة في الجامعات التي لا تتخصص في هذا الفن، هو الميل إلى التعامل مع الأعمال الشهيرة التي تضمن النجاح الفني والجماهيري، مثل العروض المسرحية العالمية أو بعض المسرحيات العربية. أعمال سهلة القراءة؛ في حين أنه ليس من المعتاد أن يقرر المخرج مع المؤلف ومجموعة من طلاب الجامعة البريطانية تقديم حكاية شعبية من صعيد مصر، فمن المرجح أنه لم يسمع بها أحد من قبل، باستثناء مخرج وكاتب هذه القصة. العمل!.. وهكذا استطاع وليد أن يحيي ويغرس نموذجاً من التراث الشعبي في ضمائر هؤلاء الشباب والجماهير. متابعة لهم..
مسعود وواجدة تحفة شعرية تجمع بين فنون الحكاية والإبداع الغنائي مع الإنشاد والارتجال. ويمزج بسلاسة شديدة بين السرد القصصي والارتجال الشعري في صور شعرية رائعة حول مأساة إنسانية بين الأخوين هريدي وعمران. بعد وفاة الأب، يدخل الأول في صراع طويل مع أخيه. على الميراث؛ صراع يدفعه إلى التخطيط لقتل أخيه ومن ثم محاولة قتل ابنه الوليد بينما يلعب القدر لعبته ويعيش الطفل مثل قصة النبي موسى. تركت الأم شامة ابنها في صندوق في البحر حتى أصبح قلبها فارغا وبقيت حزينة حتى نشأ المولود في أرض غير أرضه مع أب وأم آخرين. ثم رأى أخته وجيدا، وبالصدفة وقع في حبها وتزوجها، لكن الزواج لم يكتمل بعد أن ابتعد عنها دون وعي.
تُروى المواويل الشعبية على شكل أناشيد دينية. وهي عبارة عن مجموعة من القصص الشعبية التي تجسد الصراع الإنساني وأشكال المصير في حياة الناس. وحمل موال مسعود وواجيدا عددا من القيم والدروس العظيمة في تقديم أمثلة للصراع الأبدي بين الخير والشر، ممثلا في عقدة قابيل وهابيل. دور القدر في إنقاذ طفل حديث الولادة من البحر بعد نجاته من القتل، كما أنقذ الله موسى من فرعون. ثم الحب الحرام والزواج الباطل للأخت من أخيها… كل هذه القوانين الإنسانية التي تتحكم في مصائر الإنسان يصوغها الموال في شكل شعري متناغم يحمل مزيجا من التعبيرات الشعبية والعادات والتقاليد الخاصة بالبيئة المحيطة، وأدعية دينية قريبة من الشعر الصوفي مثل أبيات ذكر الله والاستعانة به والرجوع إليه ويده أنك ترد الظالم وتنصر المظلوم في نهاية الرواية. في أوريس البحر، يحول مبدعوها الجمهور من مجرد مستمع يتجول بخياله وحده إلى متفرج، تتجسد فيه هذه القصة الغنائية في حدث أمامه.
وفي شكل مسرحي ممتع، اقترب مبدعوه من ممارسة المحترفين في إتقان لهجة هذه المنطقة من صعيد مصر، أو في الأداء المسرحي والعاطفي. ومع كل أبعاد الدراما والمأساة التي احتوى عليها هذا الفيلم؛ واستطاع المخرج أن يربط عقولهم وضمائرهم بشيء أصيل من التراث الشعبي القديم؛ أيقظت فيهم مجالات الشعور والوعي ببيئة اجتماعية لم يكن معظمهم على دراية بثقافتها أو تفاعلوا معها من قبل. بهذه الخطوة الفنية الجريئة، يفتح وليد طلعت شكلاً ومستوى آخر من التدريب الفني لهؤلاء الشباب قد يساهم في تعزيز قوتهم على المستوى السمعي والعاطفي ووعيهم بهذه الدراما الشعرية البليغة عن إحدى مناطق صعيد مصر. لم يكن العرض المسرحي أقل بلاغة في صياغته الدرامية للممثل الدرامي محمد عادل من عذوبة السرد الشعري؛ مسرح عادل، هذا الفنان الشعبي الرائع في صنعته وخياله، استطاع أن يحول هذه الصور الشعرية إلى صور درامية متسلسلة كانت متماسكة ومتناغمة في تتابعها المشهدي بخفة واقتدار. وكأنك أمام عمل درامي تلفزيوني بحلقات متسلسلة، تنتظر حلقته الثانية خلال الاستراحة الأولى، وليس مجرد عرض مسرحي عابر. ورغم تطويل وتطويل بعض مشاهد العرض التي تحتاج إلى مزيد من التكثيف، إلا أنها قدمت وجبة دسمة تستحق المشاهدة والتكرار على مسرح أكبر يتسع للديكور الضخم الذي حمل أكثر من مستوى ودلالة على مختلف جوانب العرض. مشاهد مع تصاعد أحداثها الدرامية.
قد يدفع المال المخرج إلى تقديم تراجيديا مسرحية، كما جرت العادة في المسرح اليوناني، في صراع الإنسان مع القدر، بينما… في هذا العرض لعب طلعت على التحرر حتى من نمط تقديم المآسي التقليدية. لقد تعمد خلط هذه المأساة الإنسانية أو مآسي الحياة بفرحها أيضاً. وكأن المال تحول في صيغته الدرامية إلى شكل من أشكال الحياة الإنسانية بأحزانها وأفراحها وأفراحها ومآسيها. وكان العرض طويلا، تجاوز الساعتين، وتخللته العديد من المشاهد منها الاستعراض والغناء والرقص والتمثيل والتعبير الحركي الذي حمل العديد من الدلالات الفنية مثل مشهد صندوق الطفل وهو يسبح في البحر والذي تم تجسيده على يد مجموعة من الفتيات رقصن كأنهن حركة الموج تنقله من مكان إلى مكان ومن عصر إلى عصر؛ قدم وليد عرضه بعقل مخرج حر؛ وتحرر من أغلال المأساة في كآبتها بالمال ومارس فنون العرض المسرحي بأشكاله المختلفة من الدراما والكوميديا والرقص والغناء. ثم المشاهد الأقرب للصورة السينمائية والتي تم فيها استخدام عناصر الإضاءة والحركة البطيئة. والذي تكرر في الانتقال من حدث إلى آخر، استعرض فيه المهارات الأدائية والحركية لممثليه، فضلاً عن مهاراته في الإخراج في تسلسل المشاهد وتحويل الأحداث والدراما.
وأبدع المخرج مع مجموعة من طلاب الجامعة البريطانية في تقديم مقطوعة مسرحية مستوحاة من ألحان هذا الموضوع؛ لقد تحولوا جميعًا إلى نغمات ناطقة بأجسادهم وألسنتهم وعروضهم التمثيلية معًا. وقد حولها المخرج والمؤلف إلى آلات تعزف على الموال، ولكل منها نغمة خاصة بها. والتقط كل منهم النغمة التي تناسب موهبته الأدائية؛ وبكل براعة واقتدار، فهم كل فرد أبعاد الدراما وانطلقا معًا في سيمفونية مسرحية رائعة، عزفها عدد كبير من الممثلين الشباب، ومن بينهم محمد عطية؛ فادي جمال؛ يوسف علي حسن؛ سارة حامد؛ سما حسن؛ شريف غانم؛ أحمد حليم؛ محمد عبد المجيد؛ حبيبة محمد؛ علي رامي؛ عبد الرحمن سمير؛ تامر مهيب؛ علي رامي؛ آن أشرف؛ ريم الحبيبي؛ محمد رأفت؛ رنا هشام؛ ايمانويلا. علاء كمال؛ الطفل سليم وليد الجندي؛ الطفلة ليلى وليد طلعت؛ ولم تكتمل هذه الدراما المسرحية البليغة دون مشاركة مصممة العرض شيرين حجازي. موسيقى وألحان محمد الصاوي؛ وسام الدكتور حمدي عطية؛ قصائد أحمد شاهين; أبانوب فيكتور للإضاءة؛ أزياء أميرة صابر؛ مكياج ماجد جمال.
لمطالعة المزيد: موقع السفير وللتواصل تابعنا علي فيسبوك الدبلوماسي اليوم و يوتيوب الدبلوماسي اليوم.