ثقافة وفنون

التابعة رؤية فنية معاصرة تشتبك مع واقع مرير

القاهرة: «السفير»

هل تكفي السخرية لتقديم رؤية نقدية تصطدم بالواقع المرير؟!.. هذا ما يخبرنا به المخرج توفيق الجبالي في آخر أعماله المسرحية «الفرعية» التي عرضت على هامش فعاليات دورة العشرين. الدورة الخامسة لأيام قرطاج المسرحية على خشبة مسرح تياترو بمدينة تونس. وهو عمل مسرحي عنوانه الحيوية والمعاصرة، سواء على مستوى المعالجة أو الأداء أو القضية المطروحة… قضية كانت ولا تزال الشغل الشاغل العربي عند المبدعين من الكتاب والشعراء، حول فلسطين. جرائم الإبادة والتهجير.. قضية تفرض نفسها على الإعلام والإبداع العربي.. لكن كيف عبر المبدعون عن هذه القضية؟ وقد يميل معظمهم إلى اللجوء إلى أسلوب الأجوف الذي هو أقرب إلى الصراخ. والعويل وترديد العبارات والشعارات الرنانة في عرض مسرحي مبالغ فيه، أداء حلقي يشبه ما نراه على صفحات الأخبار وعلى ألسنة وسائل الإعلام.

فيما يأتي «الجبالي»؛ لخلط السخرية بالألم.. وتدوير عمل فني يجمع بين الحداثة، أو ما يطلق عليه المسرحيون اليوم مصطلح «ما بعد الحداثة» الشائك والمراوغ. والتي تعتمد بالدرجة الأولى على الممثل وعلى انتقاد السلوكيات الإنسانية أكثر من تقديم رؤية فنية تقليدية، يصفها المخرج وليد الدغاسني في كتابه تكريم “توفيق الجبالي وسؤال ما بعد الدراما”… بأنها إعادة النص إلى دائرة ضيقة وارتقاء بأسس العرض ما بعد الحداثي.. وفي مسرح ما بعد الدرامي يموت نص المؤلف وتولد طاقات النص، حسب تعبيره. جان فرانسوا ليوتارد. «الجبالي» من الشكل التقليدي المعتاد للكتابة المسرحية، لا توجد شخصية مسرحية ذات أبعاد درامية وملامح وتفاصيل واضحة، فيما تعتمد الشخصيات على الفوضى في التعامل مع ملامحها الشخصية أو في أداء سلوكيات هستيرية متتالية، وكأنما هذه الشخصيات تعبر بدقة عن حالة الهستيريا الجماعية التي تعاني منها الشعوب العربية اليوم عمليا. ردود فعل قلقة وغامضة على المجازر الهستيرية التي يشهدها الواقع!

ويعرض الجبالي: في «الانتساب» أو لعنة التابع كما أراد أن يسميها، في إشارة إلى اللعنة التي تحل بالمجتمعات المتهالكة إنسانيا، المجتمعات التي تحتفظ بأسباب الدمار بداخلها، فتتوالى عليها اللعنات.. حيث لا مفر، في لعنة “التابع”. ستجدون انطلاقة لا تتوقف لمجموعة من الطاقات التمثيلية المذهلة سواء في الأداء التمثيلي الذي يسخر من مواقف تلك الشخصيات أو في أداء الحركة الجماعية.. «غزل الجبالي» من الواقع العربي في ضعفه والتشرذم، هناك حالة مسرحية استثنائية تقدم لنا مستويات من اللامبالاة و«عدم النضج». الحالة النفسية التي أصابت الكثير من الناس في أشكال تفاعلهم مع الواقع. فنجد مجموعة من النساء يثرثرن عبثاً في أحاديث جانبية فارغة، ويطلقن جملاً غير مكتملة بكلمات أو معاني ناقصة، ويتشاجرن، ويتحركن بشكل عشوائي بأجسادهن، وهو ما يعكس مدى الفوضى الإنسانية التي يعيشها هؤلاء في مواجهة مؤلمة. الواقع.

بينما في المقابل يعيش رجل آخر معاناته، رجل يحمل عبء البحث عن معنى لحياته بينما يفشل في العثور على الكلمات التي تعبر عن حقيقة واقعه الذي لا يستطيع فهمه، يظهر هذا الرجل الجالس على كرسي متحرك يعبر عن عذابه النفسي وخيبة أمله في واقع لا يستطيع التعايش معه أو التعبير عنه. ويبدو الانفصال التام واضحاً بين هذا الرجل المهتم بالبحث عن المعنى وبين هؤلاء الثرثارين. وكأن هذا العاجز يعبر عن المثقف العربي الذي تائه في فوضى الواقع، والواقع أصبح أقسى وأقسى. غموض وارتباك لا يمكن إعادة قراءته وتفسيره، واقع مشوش فقد فيه صاحب القلب والقلم بوصلة الرؤية وأدوات التعبير الحسي واللفظي.

العرض لا يحمل رسائل مباشرة. ومن الواضح بقدر اعتمادها على التعبير عن المعاني بالصورة المسرحية، إضافة إلى هذه الحوارات غير المجدية التي جرت بين هؤلاء النساء، نراهن في بداية العرض يمشين في الطابور، يحملن مجموعة من الحقائب كأنهن عبارة عن شاشات مصغرة عُرضت خلالها صور متتالية لأطفال فلسطين، مشهداً معبراً بليغاً عن حالة الإبادة والتهجير التي يعيشونها. الشعب الفلسطيني، في ظل ثرثرة من حوله الفارغة من المجتمعات العربية، لم يمنع المخرج توفيق الجبالي من الاستمرار في مواكبة الواقع، حيث يسعى دائما إلى تقديم خليط من… هناك تفاعل رائع بين المسرح وأحدث تقنيات الصور الحديثة. إنها قادرة على تقديم المسرح بخيال سينمائي، خيال لن تشعر به أنك انتقلت إلى السينما. لا ينقل المشاهد إلى شاشة السينما، في حين أنه قادر على نسج التفاصيل بعذوبة ونسجها مع مهارة الخياطة الماهرة، قادر على دمج السينما والمسرح في وحدة واحدة. لتجد نفسك قد انتقلت إلى وسط ثالث جمع بين عالمين متناقضين في روعة وإبداع كبير، في مشهد المطر الأخير الذي حول الممثلين والمسرح إلى مكان وعالم آخر، عالم موازي انتقل إليه أبطال العمل، تحولت المرحلة إلى واقع. جديد تماما.. تم تنفيذ المشهد وكأننا في أحد المسارح الأوروبية وليس على خشبة مسرح تياترو بتونس، ثم المشهد الأفخم والأهم أو “المشهد الرئيسي” المشهد الرئيسي للعرض هو عندما ينقسم البطل إلى نصفين ويبدأ في محاكمة نفسه على ما عجز عن مواجهته وتحقيقه وكشفه. نرى البطل العاجز يقف خلف ستار أبيض ثم يتجسد أمامه. وهنا استطاع الجبالي أن ينقل إحدى وسائل الحيل السينمائية إلى المسرح. ويرى الجمهور البطل متجسداً أمامه. جوهره رؤية العين، وكأن روحه قد خرجت من جسده ليرى نفسه على حقيقته، ليرى ضعفه وانكساره، ويتحدث مع نفسه ويحاسبها على كل ما ارتكبته من ضعف وخيانة. ولذلك لم يتفوق المخرج بمجرد إنتاج معاني لها عمق وتأثير في التعامل مع القضية الفلسطينية أو في نقده الساخر للواقع العربي المهترئ من خلال تصويره البليغ لهذه المجتمعات المنشغلة بالقيل والقال والكلام الفارغ، أو مثقفيهم الذين يسحقهم هذا الواقع، ويعجزون عن التأثير فيه أو التفاعل معه، ويعذبهم اعتزاله إلى حد الوصول إلى الانتحار بالامتناع عن الحياة نهائياً. كل هذه المعاني تناولها الجبالي بشكل مسرحي معاصر وحديث للغاية ليؤكد أنه مخرج مدرك لواقعه المعاصر، سواء في مواكبة قضاياه الراهنة. أو في كيفية معالجة هذه القضايا فهو مخرج لا يفقد حيويته.

لمطالعة المزيد: موقع السفير وللتواصل تابعنا علي فيسبوك السفير و يوتيوب السفير .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى