ثقافة وفنون

” براءة ” قصة قصيرة للكاتبة دنيا حسين

 

  في غرفة واسعة مليئة بالبرودة واليأس والحياة الخالية من المستقبل جلست لساعات واضعًا رأسي بين رجلي أحاوط نفسي بذراعي كمن يحتضن نفسه محاولًا منع رأسي من التفكير في الذكريات المؤلمة، الغرفة جدرانها عالية، يتخللها البرد من أعقاب شروخ الجدران، وعلي جانبي الغرفة عدد من السرائر الحديدية المغطاة باللون الأبيض والأغطية البيضاء ،يفصل بين السرير والأخر مسافة 4أمتار،لا ليست مشفى كما تظنون بل إنها مؤسسة الأحداث، مكان لعقاب الأطفال الذين يبلغ أعمارهم أقل من ثمانية عشر عامًا هؤلاء الذين يرتكبون جرائم القتل والسرقة وإعادة تأهيلهم في ذاك المكان مرة أخرى. 

الهدوء يعم المكان ماعدا صوت نحيب شكري وبكائه المستمر ذلك الطفل في السرير المجاور لي يبلغ من العمر 8 سنوات كل ليلة يبكي ويصيح على أمل الخروج، ولكن هيهات يظل يبكي إلي أن ينام في سبات عميق حينها نقدر أن نغفو قليلًا، تقول المعلمة التي تدرس لي مادة اللغة العربية داخل الأحداث أن الشيطان الذي بداخله حرصه لقتل أمه وأبيه بالسكين ليلًا ولا نعلم حتى الآن كيف أرتكب تلك الجريمة !!!

اما أنا فإسمي “سيد” أبلغ من العمر الآن عشر سنوات، أما عن سبب تواجدي في هذا المكان كما تتسألون فمنذ عام تقريبًا قبل دخولي السجن كنت طفلًا ساذجًا طيب القلب، كنت فارع الطول بالرغم من صغر سني مثل والدي، ولدت في الصعيد وعشت فيها 5 سنوات قبل انتقالي مع عائلتي إلي القاهرة هربًا من الثأر القائم بين أبي وعمي وبالرغم من أنهم أخوة إلا أن كره عمي لأبي لاستكماله تعليمه وعمله كمدرس وفضل عمي عدم استكمال تعليمه ويرعي أرض والدهم ويدير شئونها ، وبعد وفاة جدي طمع عمي في الأرث الخاص بنا معتقدًا أنه حقه لمراعاته الأرض منذ سنوات وصمم بأن يكون الأرث كله ملكًا له، حينها قرر أبي الانتقال إلي القاهرة وعمله هناك مدرس للغة الإنجليزية، كنت شديد التعلق بابن عمي وكنت أحب اللعب معه، ولكن الظروف ابعدتنا عن بعضنا البعض. 

دخلت المدرسة حين انتقالي كنت اشعر بأني غريب عنهم لهجتي مختلفة عنهم وعند التحدث معهم كانوا يضحكون عليّ، ويلقبونني بثقيل الظل فمهما حاولت من قول النكات الطريفة 

ج وبالرغم من تفوقي في جميع المواد إلا أن الاطفال لا يحبون الحديث معي، على العكس من اخوتي الأكبر مني سنًا فقد اندمجوا مع فصلهم ومحاولتهم عن تخليهم عن اللغة الصعيدية وقت الدرس بالرغم من صعوبة التخلي عنها. 

                                *****

بتناديييـ….نييي تانيي ليه أنتيييي عاوزة منيي إييـ.. ه

ما. نتيي خلااص

حينها قاطعني صوت ضحكات أخي الأكبر ونحن في طريقنا للذهاب للمدرسة، قاطعت ضحكه بغضب وتحدثت معه بلغتي الصعيدية الطفولية! لدغتي في حرفي الكاف والقاف التي أنطقهم تاء

– أنت بتضتحت تده ليه؟!!!! 

=بتغني بطريقة غريبة، التههتة وأنت بتتكا على حرف الياء بتضحكني. 

قاطعتنا أمي أثناء سيرنا والتي أعادت على توصيلنا كل يوم خوفًا علينا من ذاك العالم الجديد، بالرغم من كبر سن أخي الكبير الذي في الصف الثالث الإعدادي الآن، ظننا منها أنها تحمينا وانها تقوم بما عليها من واجبات! 

-متحرجش أخوك يا إبراهيم ده لسه صغير !

كانت أمي تتحدث بين لغة القاهريين واللغة الصعيدية في محاولة منها ايضًا أن تتأقلم على الحياة الجديدة !

قال أخي الأوسط

=بصراحة ياماما مش قادر امنع نفسي سيد اصلا بيضحك من غير كلام. 

-كده يا محمد طيب مفيش لعب كورة النهاردة مع أصحابك! 

=لا يا ماما أن آسف. 

كنت اشعر بالحزن طيلة الطريق أثناء سيرنا إلى المدرسة، وأنا افكر حتى أخوتي يسخرون مني، أنا بلا قيمة في تلك الحياة. 

-تعبت من المشي يا ماما، ممكن نركب؟ 

كانت أمي اعتادت أن نسير إلي المدرسة كل يوم بالرغم من بعدها قليلا عن بيتنا توفيرًا للنفقات ولا تزيد على أبي في الطلبات، كانت أمي سيدة مدبرة بمعنى الكلمة. 

ولكن ظهرت الشجاعة وتحدثت بكل جراءة وقلت لهم:

-لما أتبر زي بـ..ابا ويبقي عندي عربـ… ية وأتون ظابط هنروح المدرسة تل ي.. وم بيها، وهي.. كون معانا فلوووس تتتتير أوي ومش هنمشي تاني ابدا

ضحك أخوتي وابتسمت أمي ابتسامة تأملاها الطيبة والحنان والشفقة على ساذجتي ووصلنا إلى المدرسة و ودعتنا أمي

                             *****

بدأ شعاع الشمس يتسلل الغرفة بخفة معلنًا مجيئ الصباح 

،دقات الساعة تعلن الساعة السابعة حان وقت الشقاء والتعب والعمل طفل مثلي في العاشرة من عمره من حقه اللعب والمرح ،كُتب عليّ المعاناة الأبدية .

يبدأ اليوم كالمعتاد ببكاء شكري وصوت نحيبه الذي لا ينتهي ،مرورا بتمارين الصباح والدرس كما يحدث بالمدرسة ثم تناول وجبة الطعام كما بالسجن ،حجرة مليئة بالطاولات وفي أحد ركنيها يوجد معدّ الطعام ويتقدم المساجين يحملون الأطباق ويضع الطباخ الطعام ثم يجلسون على مقاعدهم وكالعادة أجلس وحيدًا فضلت الوحدة بدلًا من جلب المشاكل! 

ثم يأتي الجزء المفضل لي وقت الصنعة أو كما يسموها الحرفة وعلى كل طالب أن يختار حرفة معينة يتعلمها ويكسب منها لقمة عيشه بالحلال فعند خروجه من الأحداث يكون لديه مهنة يسترزق بها، منها :النجارة والحدادة و الخياطة… إلخ

وأنا اخترت مهنة الخياطة لأتعلم تفصيل الملابس ،كنت أهوي ذلك الوقت من اليوم، ولكن الزمن لم يترك لي فرصة أن أسعد بشئ…..!

محمود الذي لم يتركني في حالي منذ قدومي إلى هنا دائما ما يقول بأن الخياطة مخصصة للبنات فقط وإنه من العيب مهارة حرفة مثلها قليل منّا كان يهواها وكان يسخر محمود واصدقائه وجعلنا مضحكة السجن .

حاولت مرارا تغاضي ما يحدث حولي أن ابتعد عن كلامهم ،لكن هيهات……

                          ****

-أقرأ ياسيد الفقرة؟! 

هكذا قالت المعلمة،وقفت وأمسكت كتابي وبدأت أقرأ. 

=جـاء الصيف، ذهببببت الأسرة لزيييارة التد في الترية. 

ووسط ضحكات الطلاب العالية والمعلمة تصحح لي.ج 

-الجد ياسيد مش التد،القرية مش الترية!

وأمرت معلمتي الطلاب بالصمت وعدم السخرية من زميلهم. 

انتهت الحصة وخرجت المعلمة من الفصل لم تهتم بوصول المعلمة الأخرى المهم أن تنهي حصتها تلك عادة المدارس الحكومية ،قام نور والذي يهوي تقليد المدرسين و السخرية منهم من أجل أن يسمع ضحكات أصحابه ظنًا منه أنه مشهورًا، ولكن اليوم لم يقلد أي معلم!!! 

وسط صرخات الأطفال ،قال واحد منهم:

-قلد ميس سهير 

-لا لا لا قلد أستاذ شاهين مدير المدرسة بكرشه الكبير ده أنت بتعرف تقلده

ارتفع صوت الأطفال

-ايوه ايوه قلده يا نور

وقف نور يتفاخر بنفسه ثم قال:

-بـــــــس هقلد النهاردة شخصية جديدة هقلد سيد النهاردة وهو بيقرأ الدرس. 

شحب وجه سيد وتعالت ضحكات الطلاب وبدأ نور بالتمثيل وأخذ وضع الاستعداد :

-إحم إحم 

جـ.. اء الصيييف …….الترية 

وصولا إلى تقليد استاذة لطيفة وهي تقول له 

-القرية ياسيد مش الترية 

استمر الضحك وطالب الاطفال بأن يعيد نور ما فعله ووسط كل تلك الضحكات، سيد يبكي ويتذكر ضرب امه له عندما ضربه مجموعة من الأولاد ولم يستطع الدفاع عن نفسه عندما لطمته على خده في وسط المدرسة أمام الجميع عندما رأت ملابسه ممزقة حتى يتعلم أن يدافع عن نفسه مرة أخرى،ظل يفكر ما ستفعله امه عندما تسمع بسخرية زميله في الفصل وأنه لم يفعل أي شيء. 

صرخ صرخة أدت إلي إسكات الضحكات

-نووووور 

متتريتش عليا تاني 

بدأ صوت الضحك يعود من جديد 

ثم

-نووووور

قام سيد من مكانه وهجم على نور وقام برميه على الأرض ثم قام بخنقه

-توولتللك متتريتقش عليييييا

تحول صوت الضحك إلي صراخ وعويل وقام بعض الطلبة بنداء أحد المسئولين ،ولكن كان كل شيء قد انتهى!!!!! 

                  *****

هذا حدث ايضًا مع محمود بحذافيره ظل يسخر منه ومن حرفته ذات يوم بطريقة مبالغ فيها حاول سيد التملص مته وعدم سماع السخرية ،ولكن لم يكف هجم عليه سيد ولكن تلك المرة دس مقص الخياطة في قلبه ،لم تصبح الآن جريمة قتل واحدة بل اثنان، هل يولد الإنسان مجرم بالفطرة أم أن الظروف والدوافع هي من تجعله مجرمًا؟! خل تدفعك السخرية وضغوط الأهل للقتل؟

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى