عندما روت البلارينات حكايات شهرزاد
حكايات «ألف ليلة وليلة» في مخيلة المشاهد، بقيت المعالجات الدرامية التلفزيونية خلال شهر رمضان عالقة في الذاكرة، أكثر تعبيراً عن أجواء ورحيق أيام الشهر الفضيل. وقد قدمت هذه الأعمال في أكثر من شكل فني جمع بين الحكي والفانتازيا والأساطير والعرض. ويتنافس أغلبهم في إتقان الصنعة الفنية لمحاكاة الأساطير؛ بذلت هذه الأعمال الدرامية جهودًا كبيرة في خلق قصص خيالية من خلال تصميم الملابس والديكور والخدع البصرية لتتقن فن الخيال وتدخل عالم حكايات شهرزاد التي أبدعت في أسر الجماهير وخيال زوجها.
لكن كيف لو تم إخراج هذا الخيال من سياق الدراما المنطوقة، صوتاً وصورة، لتقليد فن آخر بخيال آخر لم يعتد عليه المشاهد من قبل؟ يدخل إلى عالم شهرزاد الخيالي وقصصها الأسطورية من خلال فن الباليه. فن له طبيعة وخصوصية تميزه عن باقي فنون الرقص. تختلف طبيعة الباليه في التكوين الحركي والتشريح الجسدي لأجساد الراقصين. وكذلك في أسلوب الحركة المتبع، والذي يعتمد غالباً على حركات معروفة ومتكررة لا تخرج عن قالب محدد جداً، سواء في أشكال وأنماط رفع اليدين، أو إمالة الرأس إلى الخلف أو إلى الأمام، أو رفعه. إلى أعلى، ورفع الساقين، وأشكال راقصات الباليه في اتخاذ أوضاع أقرب إلى الطيران والتحليق في السماء، كما يُنسب عادةً إلى الباليه باعتباره نوعاً من الرقص الأقرب إلى أشكال العبادة ويخلو من سمات الإغراء الجسدي، حيث تكاد راقصة الباليه تفقد ملامحها الأنثوية حتى لا تلفت الأنظار.
ولذلك كان لافتاً أن فريق باليه أوبرا القاهرة اختار نص «ألف ليلة وليلة» الغني بعدد من اللوحات الراقصة والأعمال الدرامية المرتبطة بالحكايات الشرقية، والتي تقدمها واحدة من أكثر الرقصات الغربية تميزاً وأقلها مرونة في قبول الانحرافات عن سياق الحركة المعتادة لهذا الفن على وجه الخصوص. قدم فريق باليه أوبرا القاهرة حكايات «ألف ليلة وليلة» في طاعة تامة وخضوع لما ترويه الدراما؛ حيث فرضت شهرزاد خيالها وتأثيرها على فن الباليه، ولم ينتصر فريق العمل على تقنية الباليه الحركية المحدودة، بينما انفتح المخرج وفريق العمل على دراما ألف ليلة وليلة.
بدأ العرض فصله الأول بأحداث القصر، حيث يعيش السلطان شهريار مع زوجته “نوريدا” التي يحبها بشدة؛ تستعد مجموعة من رجال الحاشية للذهاب مع السلطان في رحلة صيد. يودع زوجته ويتركها وحيدة في القصر بينما تقيم “نوريدا” هناك. حفلة صاخبة في غياب زوجها ترقص فيها مع خادمها المفضل. وفجأة يعود زوجها ليجدها بين أحضان حبيبها، فيقرر قتلها هي وعشيقها. ومن هذه اللحظة يقرر شهريار الانتقام من كل فتاة تدخل القصر. يتزوجها ذات ليلة ويقتلها في اليوم التالي حتى تظهر شهرزاد.
افتتحت اللوحة الأولى للعرض بتوديع السلطان زوجته في رحلة الصيد، ثم الحفل الصاخب الذي أقامته الزوجة الخائنة، وتضمنت تلك اللوحة حفل رقص فخم جمع بين مختلف ألوان وأشكال الرقص على أنغام أنغام موسيقى “فيكرت أميروف”. والتي مزجت مزيجاً رائعاً من الألحان الشرقية والغربية. وقد رويت أحداث القصة بتسلسل موسيقي يعبر عن صعود وهبوط هذه الأحداث الساخنة في تناغم فني واستمتاع كبير في متناول يد المايسترو نادر عباسي الذي يتميز دائما في ترفيه جمهوره بقيادته الجيدة للأوركسترا و المجموعة الكبيرة من الراقصين على المسرح بإبداع كبير، ليخرجوا لنا لوحة فنية تمزج بين تنوع الأداء الحركي. راقصة على أنغام الموسيقى؛ بدأت الجلسة الأولى بمزيج استثنائي من الرقص الشرقي مع حركات راقصة الباليه. هجين رائع بين رقصتين متناقضتين لتنتج لوحة فنية تتميز بالإبداع من هذا التناقض في الجمع بين ثقافتين مختلفتين للغاية مع اختلاف في المفهوم والمعنى والتعبير الجسدي. ارتبط الرقص الشرقي في مخيلة المشاهد والعقل العربي والغربي باعتباره أحد أهم فنون السحر والإغواء. الراقصة الشرقية هي مشعل الغرائز والممثل المجسم لكل رذيلة على مر العصور. وهذا الرأي راسخ في أذهان العقول الشرقية والغربية، وهو ما استعرضته بالتفصيل الكاتبة شذى يحيى في دراستها للرقص الشرقي في كتاب “الإمبريالية والتشكيك”، لذلك كان اختيارًا ذكيًا ومرنًا للغاية في الحركة تصميم وتعبير دقيق درامي لمشهد الخيانة والإغراء الذي لاحقته الزوجة مع عشيقها، والذي استخدمت فيه المخرجة أرمينيا كامل تنويعات بين الرقص الشرقي مع الحركة والملابس والدفوف، وبعض لمحات من حركات الباليه في الرقصة الثنائية، مع مزجها بالحركات الشرقية الصاخبة، فكانت النتيجة لوحة فنية معبرة. أداء رائع جمع فيه المصمم والمخرج خصوصية الباليه مع حركات الرقص الشرقي الحرة.
بين تقديم حركات باليه أنيقة مرتبة بتقنية حركية معينة، خاصة للرقصات الثنائية، ثم الخروج والخروج عن قوانين هذا الفن الذي عادة ما يتبع خصوصيته مع الأعمال التي يتناولها. من القصص والحكايات الخيالية، غالبًا ما تكون هذه الحكايات مكتوبة بطريقة مناسبة ومتسقة مع فن الباليه. في حين أنه ليس من المعتاد أن يختار هذا الفن لنفسه ما لا يناسبه، فيخضع ويستسلم طواعية لما تمليه عليه الدراما وليس لما تمليه عليه من تقنية الحركة لهذه الدراما؛ وتم إنشاء المشاهد في لوحات فنية حرة، مستغلة أجساد الراقصين للتعبير عن دراما العرض. وقدم المخرج رقصة تعبيرية مزجت بين التعبير الجسدي والتمثيل أحياناً، واستخدم التشكيلات الجماعية بالملابس والحركة ليحكي الدراما المختلفة للعرض في مشهد مقتل شهريار أمام مجموعة من الفتيات اللاتي ارتدين جميعهن ملابس سوداء، رؤوس مغطاة بالنبيذ الأسود، حزناً على ما آلت إليه حالهم، ثم ظهورهم واختفاءهم كأنهم أشباح تطارده بعد ظهور شهرزاد. يشرح العمل ويفسر نفسه دون كلمات منطوقة؛ كل ما احتوته الدراما من مشاعر الغضب والخيانة والغدر ثم الانتقام والقتل، وانتهاء بالاستسلام والخضوع لامرأة واحدة استطاعت أن تغازل ضمير شهريار بقصصها التي لا تنتهي والتي لم تتوقف عن مداعبة خياله و تثيره ليلة بعد ليلة حتى بلغت لياليها الألف!
وكانت الصورة المسرحية متناغمة تماماً مع مداعبة تلك الخيالات الليلية الطويلة لحكايات شهرزاد، سواء الملابس أو الإضاءة من تصميم المهندس ياسر شعلان والديكور من تصميم المهندس محمد الغرباوي. وشكلت عناصر الصورة لوحات فنية بديعة لا تقل إتقاناً وسحراً عن الإبداع الفني لجميع الأعمال. والتي سبق أن عرضت حكايات «ألف ليلة وليلة» من قبل؛ وتميزت ملابس العرض المتنوعة بتصميماتها وألوانها الزاهية عن الأشكال المعتادة لملابس راقصات الباليه، لتتوافق مع حكايات ألف ليلة وليلة. وكذلك ملابس قصة «علاء الدين والمصباح السحري» المتشابكة مع أحداث العرض الأصلي، والتي ترويها شهرزاد لحبيبها طوال العرض؛ في مرونة شديدة بين الخروج عن قصة علاء الدين والعودة إلى القصة الأصلية، اندمجت دراما باليه “ألف ليلة وليلة” لتقدم لنا عملاً فنياً متماسكاً ومتناغماً للغاية مع الرقص والتمثيل والموسيقى والإضاءة والديكور في ليلة سابقة، وكأنه حلم من ليالي شهرزاد عاشه الجمهور وتفاعل معه بحيوية على المسرح الكبير في دار الأوبرا.
لمطالعة المزيد: موقع السفير وللتواصل تابعنا علي فيسبوك الدبلوماسي اليوم و يوتيوب الدبلوماسي اليوم.