«جران توريزمو» يمشي في الاتجاه المعاكس لهواجسنا
شغلنا العالم الافتراضي كثيراً وأصبح الجزء الحيوي الذي لا غنى عنه في حياتنا. كنا نخاف منها ونخافها ونشعر أنها تسرق أطفالنا وتختطفهم من العالم الحقيقي إلى عوالم بعيدة ليست كلها خيال. بل الأخطر من ذلك أنه يجعل من هذا «الوهم» والافتراض بالونًا يعيش بداخله. أطفال وشباب، يحلقون عالياً معه ويبتعدون عن التواصل الفعلي معنا ومع المجتمع الذي يعيشون فيه.. وهذه ليست مجرد كلمات تلخص حال معظم الآباء في عصرنا وخوفهم على أبنائهم من العالم الافتراضي، بل هي كلمات تلخص رسالة فيلم “Gran Turismo” الذي حقق نجاحاً مميزاً منذ انطلاق عرضه في الصالات العالمية قبل نحو أسبوع، وهو ما يسير في الاتجاه المعاكس لهواجسنا، ليقدم قصة حقيقية عن أول شاب ينتقل من عالم الألعاب الافتراضية وينقله معه إلى الواقع في تجربة فريدة وبفيلم ناجح يستحق المشاهدة.
كالعادة، عندما تعلم أنك ستشاهد فيلماً مقتبساً عن قصة حقيقية، تسارع إلى جوجل لتبحث عن صاحب القصة، ولماذا صنعوا فيلماً عنه، وهل لا يزال على قيد الحياة أم لا؟ .. وعندما تعلم أنها قصة شاب من رواد سباق السيارات، فإنها تحسب على الفور. إما مات في حادث أليم، أو تعرض لحادث تركه على كرسي متحرك، أو سبب له صدمة أبعدته عن عالم السيارات.. وداخلك على يقين أن هناك دراما في طيات الـ قصة؛ لكن فيلم “Gran Turismo” لا يهتم بأي من هذه الكليشيهات ولا يعتمد على المأساة في بناء أحداثه أو ليكون سببًا مقنعًا لصنع فيلم يجذب الجمهور. التعلق بها وبعالم السيارات وحفظ كل التفاصيل والمعلومات عن ميكانيكا السيارات وحلبة السباق وأي خدعة يمكن اتباعها للفوز بالسباق. في السباقات العالمية والعالمية، وإذا كانت القصة تدور بالكامل في عالم المغامرات والمسابقات فإن صناعة فيلم من هذا النوع تعتبر مغامرة إلى حد ما، لأن بطل القصة لا يزال صغيراً (يبلغ 32 عاماً هذا الشهر) )، لا تزال على قيد الحياة وتشارك في السباقات، على عكس ما يحدث عادةً، حيث تتناول الأفلام حياة شخصيات مرت شهرتها لفترة طويلة، أو مر وقت على رحيلها أيضًا.
وهي قصة حقيقية مستوحاة من لعبة “غران توريزمو” (أو Turismo) التي تم تأسيسها عام 1997 في اليابان لتكون أكثر المواقع محاكاة للواقع، وهي اللعبة التي استطاعت جذب الكثير من الشباب حول العالم، و في ويلز البريطانية نرى المراهق جان ماردنبورو يرفض الخروج مع والده وأخيه الأكبر للتدرب على كرة القدم أو حتى ممارسة الرياضة كما يرغب والده (دجيمون هونسو)، ويرفض مغادرة غرفته لقضاء ساعات أمام لعبته المفضلة. “السياحة الكبرى”. وبالطبع هناك صراع كبير بينه وبين والده بسبب هوسه بعالم السيارات والعالم الافتراضي “الفارغ” بحسب والده الذي يعتبر أن كل ما يفعله يان لا قيمة له وسيؤدي إلى خسارته. في هذه الأثناء، يسافر خبير التسويق الاستثنائي داني مور (أورلاندو بلوم) إلى شركة نيسان في طوكيو لإقناع إدارتها بالاستفادة من اللعبة وتحويلها إلى منافسة حقيقية، ومن يفوز بها يحصل على فرصة التدريب في الشركة، والأفضل. يتم اختيار سبعة لاعبين من دول مختلفة، وهكذا يشارك يان ويفوز من بريطانيا ويسافر لينضم إلى بقية اللاعبين، ويتم تدريبهم لينتقلوا من عالم الخيال والفرضيات إلى الواقع ليصبحوا متسابقين حقيقيين لنيسان؛ يتعاون مور أيضًا مع رئيس الطاقم المخضرم والسائق المحترف السابق جاك سالتر (ديفيد هاربور) لتولي تدريب المتسابقين.
تبدأ المغامرات بانتقال اللاعبين إلى الحلبة الحقيقية، وفي نهايتها يفوز يان ليكون الممثل الأول لشركة نيسان، وتتحول حياته لتحقيق حلم طفولته في قيادة السيارات السريعة. يتوالى في الفيلم التوتر والخصومات والأحقاد والأحداث، لكنها ليست بنفس التسلسل في حياة البطل الحقيقي يان. دخل مسابقة نيسان وفاز بها لأول مرة عام 2011 عندما كان عمره 20 عاما، وفي عام 2013 فاز بسباق لومان في فرنسا الذي يعتبر الأصعب في العالم، وفي عام 2015 تعرض لحادث . أصيب خلال سباق في ألمانيا ومات أحد المتفرجين خارج الحلبة. وهو المشهد الذي نجح المخرج في تقديمه بالشكل الذي أدهش وصدم الجمهور. أما الفيلم، ولأسباب درامية، فقد وقع الحادث قبل سباق لومان كنوع من التشويق والتوابل للدراما. وبدا يان خائفا، رافضا العودة إلى المضمار، بل مرعوبا من المشاركة في سباق لومان، وهو ما أعطى فوزه نكهة الفوز المستحق ونال بلا شك تعاطف الجمهور. كما قدم صناع الفيلم المزيد من البهارات وهي خلق علاقة حب بين البطل ورفيقة طفولته أودري (مايفي كورتيت ليلي)، بينما في الواقع هي مجرد صديقة تقف بجانبه وتستشيرها منذ الطفولة حتى اليوم.
مدير موهوب
المخرج نيل بلومكامب هو بطل هذا الفيلم. لقد تفوق على المؤلفين وكتاب السيناريو جيسون هول وزاك بالين وأليكس تسي. كان لا بد من مخرج ماهر في عمله أن يتولى القيادة، موهوب في جعل الشاشة مضمار سباق يخطف أنفاسنا، فناناً في التصوير من زوايا مختلفة، حتى تشعر أنك تقود. تراقب السيارة المتسابقين والمسار بأكمله من أعلى، ثم تتمايل خلال المنعطفات، وتتسارع نبضات القلب مع تسارع السيارة، ويتحول قلب السيارة ومحركها مثل فرقة موسيقية تعزف وقائدها عازف طبلة يسرّع الإيقاع إلى درجة الإيقاع. ذروة. ولعل من أجمل المشاهد في الفيلم تلك التي دمج فيها بلومكامب بين الخيال والواقع. عندما كان المراهق يان يلعب لعبته المفضلة، سباق السيارات، في غرفته، تخيل نفسه يقود سيارة حقيقية. هذا الخيال جسده المخرج برسم افتراضي تشكل أمامنا على الشاشة، وعندما انتقل الشاب فعلا من الهاوي إلى محترف يمثل نيسان في السباقات، جعله المخرج يقود السيارة، متخيلا هذه المرة أن كان في غرفته خلف عجلة القيادة الافتراضية، يلعب البلاي ستيشن لا أكثر، من أجل التخلص من التوتر والخوف، في مشهد عكسي رائع.
شخصيات رائعة
تألقت جميع الشخصيات الرئيسية، آرتشي ماديكوي مليء بالحيوية، يشبه إلى حد كبير يان الحقيقي، مناسب تمامًا للدور من حيث الشكل والأداء، بلوم مقنع كخبير إداري ناجح، وهاربور يعزف على أوتار العصبية، والحدة في الأداء. شخصيته، ونعومته التي لا تظهر إلا في الأزمات.. أما خلاصة القول، وهي أن الفيلم ينقله إليك، إذ يتجسد في مشهد وصول والد يان ليكون بجوار ابنه في سباق لومان من أجل في المرة الأولى حيث يعترف له بأنه أخطأ عندما لم يسمعه ولم يشجعه على تنمية موهبته وتحقيق حلمه، بل كان يفكر تقليديا ونحو الهوايات الرياضية التقليدية والتخصصات والوظائف التقليدية أيضا بل وندم لأنه أراد معاقبة ابنه بسبب تعلقه الشديد بلعبة السيارات والعالم الافتراضي.
[email protected]
للمزيد : تابعنا هنا ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر