الحروب السيبرانية بصناديق الاقتراع.. كيف يهدد Deepfake الانتخابات الأمريكية 2024
في عصر حيث يؤثر الابتكار الرقمي بشكل عميق على كل جانب من جوانب حياتنا، تقف سلامة العمليات الديمقراطية عند مفترق طرق محوري. لا ينبئ هذا العصر بالتقدم التكنولوجي فحسب، بل وأيضًا بآلية متطورة للخداع، يتم تدبيرها من قبل جهات غير مرئية تتلاعب بالمشهد الرقمي لتحدي أسس الديمقراطية ذاتها.
بينما تستعد البلدان في جميع أنحاء العالم للانتخابات المقبلة، فإننا نواجه خطرًا جديدًا وغير مسبوق يتجاوز مجرد إساءة استخدام التكنولوجيا – إمكانية تزوير الانتخابات من خلال الاستخدام الماهر للذكاء الاصطناعي وتقنيات التزييف العميق، والتي يتم تنظيمها بواسطة شبكة سرية تعمل في الظل.
كشف تقرير صادر عن موقع Checkpoint للتدقيق عن تزايد توفر خدمات التزييف العميق على شبكة الويب المظلمة وتيليجرام. هذه الظاهرة ليست عمل ذئاب منفردة، بل هي جهد منسق من قبل شبكة خفية من المحتالين والمتسللين، الذين لا يتركون أي بصمات رقمية، ويعملون بإفلات من العقاب خلف لوحات المفاتيح وأجهزة الكمبيوتر. تنسج أفعالهم شبكة معقدة من المعلومات المضللة والتلاعب، مما يعقد إلى حد كبير الجهود الرامية إلى حماية نزاهة الانتخابات والحفاظ على ثقة الجمهور في العملية الديمقراطية.
تحدي التزييف العميق
تسمح تقنية Deepfake بإنشاء محتوى صوتي وبصري واقعي للغاية ولكنه مُلفَّق بالكامل، مما يوفر أداة قوية لأولئك الذين يسعون إلى التلاعب بالرأي العام أو تشويه سمعة الشخصيات السياسية. إن سهولة الوصول إلى هذه الخدمات واستخدامها تؤكد على التهديد المتزايد ليس فقط لنزاهة الانتخابات وشفافيتها ولكن أيضًا للثقة الأساسية التي تقوم عليها المؤسسات الديمقراطية.
هناك أكثر من 3000 مستودع لتقنية التزييف العميق على منصات مثل GitHub، مما يشير إلى أنه يمكن تطويرها وتوزيعها على نطاق واسع. يستضيف Telegram مئات القنوات (حوالي 400-500) والمجموعات التي تقدم خدمات التزييف العميق، بدءًا من الروبوتات الآلية التي توجه المستخدمين خلال العملية إلى الخدمات الشخصية التي يقدمها الأفراد مباشرة. تتفاوت أسعار هذه الخدمات، بدءًا من 2 دولار لكل مقطع فيديو وتصل إلى 100 دولار لمقاطع فيديو متعددة ومحاولات، مما يجعل تكلفة إنشاء محتوى خادع معقولة بشكل مثير للقلق.
من يقف وراء هذه التقنيات؟
لفهم التهديد الوشيك الذي تشكله تقنية التزييف العميق للانتخابات الأمريكية المقبلة في عام 2024، من المهم أن ندرك أن هذا ليس مجرد تحدي للتطور التكنولوجي، بل هو مظهر من مظاهر آلية خداع أوسع وأكثر غدراً.
خلف الشاشات، تعمل شبكة سرية من الجهات الفاعلة، وتستغل هذه التقنيات ليس فقط كأدوات، بل كأسلحة في استراتيجية شاملة لتقويض نزاهة الديمقراطية. هذه الآلية الغامضة، التي يتم تنسيقها ببضع نقرات، تتلاعب بالإدراك العام والوعي بكفاءة صادمة، كل هذا في حين يظل مرتكبوها مجهولين، ولا يتركون أي بصمات رقمية تقريبًا.
إن جوهر هذا التهديد لا يكمن فقط في توافر تقنية التزييف العميق، بل وفي النوايا الخبيثة لأولئك الذين يستخدمونها. وغالبًا ما يستغل هؤلاء الأفراد أو المجموعات أو حتى الجهات الفاعلة الحكومية عدم الكشف عن هويتهم في العالم الرقمي لإجراء عملياتهم، مما يجعل من الصعب للغاية محاسبة أي شخص.
لقد منحتهم ديمقراطية تقنية التزييف العميق القدرة على خلق أكاذيب مقنعة، ودفع المعلومات المضللة إلى مستويات جديدة من المصداقية والتأثير. إن إخفاء الهوية يشجع الجهات الفاعلة المهددة، ويوفر لها درعًا يمكنهم من خلاله تنفيذ حملات التضليل دون خوف من العواقب.
إن الطبيعة المقنعة لمثل هذه الفيديوهات المزيفة يمكن أن تؤدي إلى زرع مشاعر وتصورات ومعتقدات خاطئة في أذهان الجمهور عندما يشاهدونها لأول مرة، على الرغم من الكشف لاحقًا عن زيفها، وهذا يمكن أن يؤدي إلى أضرار جسيمة لسلامة العملية بأكملها.
وعلاوة على ذلك، فإن غياب البصمات الرقمية يزيد من تعقيد مهمة مكافحة هذه الممارسات الخادعة. وتفشل تدابير الأمن السيبراني التقليدية عندما لا توجد مسارات رقمية واضحة يمكن تتبعها، أو لا يتم إدراج عناوين IP في القائمة السوداء، أو لا توجد توقيعات واضحة للبرامج الضارة يمكن اكتشافها. وقد تحول ميدان المعركة من تدابير مضادة تقنية إلى ساحة أكثر تعقيدًا للحرب النفسية والتوعية العامة.
إن الخطر الحقيقي لا يكمن في التكنولوجيا فحسب، بل وفي النظام البيئي بأكمله للخداع الذي تتيحه. يعمل هذا النظام البيئي من خلال شبكة معقدة من الروبوتات والحسابات المزيفة والخدمات مجهولة الهوية، وكلها مصممة لإنتاج وتضخيم وتوزيع المحتوى الملفق – وهو شكل من أشكال حرب العصابات في العصر الرقمي، حيث يتلاعب المهاجمون غير المرئيين والمراوغين ليس فقط بالمعلومات ولكن أيضًا بنسيج الواقع كما يدركه الناخبون.
صعود استنساخ الصوت
يعد استنساخ الصوت جزءًا مهمًا من تقنية التزييف العميق، والتي تستخدم التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي لتقليد صوت الشخص بدقة ملحوظة. تحلل التكنولوجيا عينات الصوت لمعرفة خصائص الصوت المستهدف، مثل درجة الصوت ونبرته وأسلوب التحدث، ومن ثم يمكنها إنشاء كلام جديد يحاكي هذه الفروق الدقيقة، مما يجعل من الممكن إنشاء مقاطع صوتية مزيفة مقنعة.
وقد تكون هذه الفيديوهات المزيفة فعالة بشكل خاص في نشر المعلومات المضللة، كما يتضح من الحوادث التي تنطوي على مكالمات آلية تحمل رسائل ملفقة من زعماء سياسيين. وعلى عكس مقاطع الفيديو المزيفة، التي تتطلب معالجة معقدة للبيانات البصرية، فإن إنتاج مقاطع الفيديو المزيفة ومشاركتها أسهل بكثير، مما يشكل خطرًا كبيرًا لتضليل الناخبين وتقويض الثقة في العملية الانتخابية.
ومن الأمثلة الأخيرة على ذلك مكالمة هاتفية آلية مع الناخبين في نيو هامبشاير بصوت مزيف للرئيس الأمريكي جو بايدن، يطلب من الناخبين عدم الإدلاء بأصواتهم.
وقال مكتب المدعي العام في بيان: “على الرغم من أن الصوت في المكالمة الآلية يبدو وكأنه صوت الرئيس بايدن، إلا أن هذه الرسالة يبدو أنها تم إنشاؤها بشكل مصطنع بناءً على المؤشرات الأولية”. على منصات مختلفة، يمكن أن تبدأ الأسعار من حوالي 10 دولارات شهريًا وتصل إلى عدة مئات من الدولارات اعتمادًا على الميزات المتاحة مثل تحويل الكلام إلى كلام في الوقت الفعلي، أو زمن الوصول المنخفض، أو الوصول إلى واجهة برمجة التطبيقات بمبلغ 0.006 دولار فقط لكل ثانية من الصوت الناتج.
الاستجابات التشريعية والتداعيات المستقبلية
وفي ظل هذا المثال وصعود ظاهرة استنساخ الأصوات، حظرت الولايات المتحدة المكالمات الآلية التي يتم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي، حيث قالت لجنة الاتصالات الفيدرالية: “يستخدم المجرمون الأصوات التي يتم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي في المكالمات الآلية غير المرغوب فيها لابتزاز أفراد الأسرة الضعفاء، وانتحال شخصيات المشاهير، وتضليل الناخبين. نحن ننبه المحتالين وراء هذه المكالمات الآلية”.
تعكس هذه الخطوة المخاوف المتزايدة بشأن التلاعب الرقمي وتأثيره على نزاهة الانتخابات. ومع ذلك، فإن التطوير المستمر لتقنية التزييف العميق وتطبيقاتها يسلط الضوء على المعركة المستمرة بين التقدم التكنولوجي والحوكمة الأخلاقية.
مع تعمقنا في تداعيات التزييف العميق على الانتخابات الأمريكية لعام 2024، أصبح من الواضح أن حماية العمليات الديمقراطية في العصر الرقمي تتطلب نهجًا متعدد الأوجه. وهذا لا يشمل التدابير التشريعية فحسب، بل يشمل أيضًا الوعي العام، والحلول التكنولوجية، والتعاون الدولي. لا يكمن التحدي في مكافحة التكنولوجيا نفسها فحسب، بل وفي الحفاظ على الثقة الأساسية للمجتمعات الديمقراطية.
إن ظهور تقنية التزييف العميق كأداة للتدخل في الانتخابات يؤكد على منعطف حرج للديمقراطيات في جميع أنحاء العالم، ومع اقتراب موعد انتخابات عام 2024 في العديد من البلدان حول العالم في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة، فإن الحاجة إلى اليقظة والتدابير الاستباقية أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. إن نزاهة العمليات الديمقراطية – وثقة الناخبين – على المحك، مما يتطلب جهودًا متضافرة من جميع أصحاب المصلحة المعنيين.
ومن الضروري أيضاً أن ننظر إلى ما هو أبعد من الجوانب التكنولوجية وأن نتعامل مع العنصر البشري الذي يقف وراء هذه العمليات. وهذا لا يستلزم فقط تعزيز محو الأمية الرقمية ومهارات التفكير النقدي، بل وأيضاً تعزيز ثقافة الشك والتحقق. وتشكل حملات التوعية العامة، ومبادرات التعليم، والمشاركة المجتمعية أهمية بالغة لتزويد المواطنين بالأدوات اللازمة للتمييز بين الحقيقة والخداع. فضلاً عن ذلك، يشكل التعاون بين شركات التكنولوجيا، وأجهزة إنفاذ القانون، وخبراء الأمن السيبراني أهمية بالغة في تطوير طرق أكثر تطوراً للكشف عن هذه التهديدات وتحييدها.
لمطالعة المزيد: موقع الدبلوماسي اليوم وللتواصل تابعنا علي فيسبوك الدبلوماسي اليوم و يوتيوب الدبلوماسي اليوم.